السبت، 13 أغسطس 2016

مواطنة تتسكع في جرح .......







أفتحُ قارورة عطر الحنين ، وباب الاشتياق ..
يحاصرني وجهك بين زوايا الليل المتوحدة صمتك المهيب، في شرنقة السكون، في تجاعيد الشوارع المهجورة، في حانات يتردد بين أصدائها رنين ضحكات الماضي البعيد، وجوه كانت هنا ترتاد صخب المقاهي، وضجيج الأزقة، تعبق برائحة الزمن الجميل، والآن يبيت فيها الوجع   ويستيقظ صباحا متحدثاً لنا بصوته الصارخ، يرسل لنا رسائله النصية في صياح لا يتوقف، ووجوه ما كان لها أن تعرف الوطن، لولا أن عرفت كيف تتسلق فوق أكتاف الزمن


  أتسكع في جرح نازف، أحاول رتق الجبين بشيء من ضمادات كلماتي، أستنزف الوقت المتبقي من عمر الدولة، في البحث عن أطياف عاشقة، وألوان صاخبة تعرف كيف ترسم نقوش الفرح بين حانات الوطن المهجورة، كنتُ أقلق، أخاف، أتوجس، أنتفض في حيرة، متسائلة ماذا بعد أن ترهلت الأزمنة في ليبيا؟ ماذا بعد أن صارت قبلة للمفسدين في الأرض؟ ماذا بعد أن غدت هذه الحقول ــ المخضبة بالقمح، واليمام، والزهر، والورد البلدي، والياسمين ـ قاتمة ومهجورة؟ بعد اختصار أعمارنا؟ بعد عودتنا للعصر الحجري؟ ماذا بعد أن أصبح العالم يخافنا، ويعاملنا على أننا مواطنون بدرجة (مسجل خطر؟)

أتسكع في نزف الجرح، وخاطري مجروح، ونسغي يبدد دمي للخارج، وريدي ينفر اللون الأحمر هنا وهناك، قصائدي شاحبة، صوتي يتحشرج كلما لفظتُ اسم مدينة ليبية، أشعر أنها بدأت تفقد وعيها عن الوجود ...وآآآآآه من الوجود الذي أثقل رأسي بالوعود، ودوُّرني تائهة، ضعيفة، لا حول لي ولا قوة، خجولة، مطأطأة الرأس بين رفيقاتي، حين يكتبن، ويتحدثن مزهوات بأوطانهن، حين يرسمن أفعال الرجال في أبيات شعر، أو ثلة خواطر، أو حفنة شهب من شذرات الشعر، وماذا سأكتب عنا؟ عن اختلافنا؟ أم عن قادة قادوا ليبيا لمستنقعات الرماد؟ أم عن رجال يناضلون ليل نهار من أجل تأزيم أوضاعنا المعيشية؟  أم عن حكومات الحد الأعلى لفاعليتها الاستجابة لتوفير الأرز والدقيق وجزء مستقطع من المرتب، وبالكاد جرعة أنسولين لمريض سكري، يستنزف قواه، ويبطل شهيته، ريثما تأتي الجرعة التالية، عماذا سأكتب؟ عن مدن تتراشق الحجارة فيما بينها؟ أم عن كتاب وصحافيين لا يسمع صوتهم أحد، أم عن سلطة عمياء لا ترانا؟ أم عن أئمة تركوا قضاء حوائج الناس، وتفرغوا لقضاء حوائج السياسة؟ استغراق يتوه في دهاليز ذاهبة في طولها، مادام باب الحوار ينحو مناحٍ جدلية، ومادامت المخالفة تتفوق على الاختلاف، والخلاف يقود الأطراف للبحث عمن يخلف الطرف الآخر.

 تومئ لي فوهة البركان المفتوحة في ليبيا أننا لسنا في الوجود الحقيقي، وأنَّ الوجود السالب يستغرق بنا نحو شرخ عميق لا ننتبه له، نُدب، وعلامات تطال جسد الوطن، طعنات في صدر الهوية، تشوهات خلقية تطال التراث، والكل مفصول عن الكل، كان وجه *هايدجر* يلاحقني من فكرة لفكرة، يغمرني في عشب السؤال، فأغرق في سافانا طويلة، من إجابات تتسكع في نسغي، تحاول ملاحقة نبضي المسكون بالقلق، هنالك رأيت الكثيرين مثلي، غارقين في يم الأسئلة، والفصال عن وجودنا الفاعل، ذلك الوجود الممتلئ بالصخب، والحياة، والتفاعل، والفعل، وردِّ الفعل، كنا في هوة من الإحباط ، يسكننا الخوف، يقيم في داخلنا ذلك الوهم من أننا موجودين حقيقة ، هزَّات من هايدجر، تحاول روحي أن تستل نفسها من الاغتراب عن واقعها ، خشية أن يصل الأمر لسلب الذات ، وتفريغها من قيمة الوجود .
  
 أتسكع في ذلك الجرح الغائر، أغوص حتى يغمرني بياض حزنه ، أتشرب منه عنوة، لأقول له سأظل أقلق عليك، ما دمت نبضا تسري في وريدي مدى العمر ،  سأمضي به ويقيني ببلادي مطوياً في قلبي، أحمله في جنبات هذه الروح المرتعشة، مثل طائر مبلل بالحنين لعشِّه، يتمنى أن ينفض عنه غبار الهجرة والاغتراب،  فالقلب مُلقى في غيابات الجب ، والروح مغازل تُلقي بأسماعها لأخبار الوجد ، والعيون سهرٌ انداح  في مسارب الليل طيش ونزف ، والأنف ضمِّخته رائحة الغياب حتى سكرتْ به شهوة اللقاء ، والشفاه أناختْ بأسئلتها إلى إجابات  ترجمتها قبُل  التوق  للقاء وجوه ابتلعها الغياب  ، في سجون التوحد والتغريب داخلنا.

عبير الورد

ذات تسكُّع في جرح
13/8/2016 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق